صحيفة الشرق القطريه الاثنين 13 ذو الحجة 1430 – 30 نوفمبر 2009
حروب الإنترنت في الطريق – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_30.html
http://fahmyhoweidy.jeeran.com/archive/2009/11/978276.html
لا أعرف ما إذا كنا سنعيش لنشهد حروب الإنترنت أم لا؟.
وإذا كتب لنا أن يمتد بنا العمر إلى ذلك العصر الذي لاحت بوادره في الأفق، فأتمنى ألا نبلغه ونحن بحالتنا هذه.
أعني، والغوغاء والمتعصبون والحمقى يمارسون نزقهم ويفرضون خطابهم ورؤاهم على المجتمع، بما يعرض مصالحه ومصائره للخطر.
وهو كلام أقوله من وحي الفتنة الراهنة، خصوصا بعدما سمعت من بعض العقلاء أن التراشق والتصعيد الحاصلين في العلاقات المصرية الجزائرية كان يمكن أن يصل إلى حد الاشتباك المسلح لو أن بينهما حدودا مشتركة، كما حدث يوما بين هندوراس والسلفادور في أمريكا اللاتينية، وكانت كرة القدم هي السبب أيضا.
ومن رأي هؤلاء ـ وأنا معهم ـ أن العناية الإلهية شاءت أن تتباعد بينهما المسافات، بحيث تكفلت الجغرافيا بفض الاشتباك بين الغوغاء في البلدين.
حروب الإنترنت القادمة تغلبت على المسافات وتجاوزت مشكلة الجغرافيا. إذ وفرت للمتقدمين تكنولوجيا ـ الذين نحمد الله حمدا كثيرا على أننا لسنا منهم ـ أساليب جديدة للاقتتال لم تخطر على بالنا يوما ما.
صحيح أن الخبراء تحدثوا عن وقوع تلك الحروب، ولكن كلامهم ظل يؤخذ على أنه من شطحات الخيال العلمي. وشأن تطورات أخرى كثيرة، فإن ما كان خيالا في الأمس تحول إلى حقائق اليوم،
آية ذلك أن خبراء مؤسسة «مكفي» للخدمات الأمنية في بريطانيا عكفوا على دراسة وتحليل الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها شبكة الإنترنت، وأثبتت التحريات أن دوافعها سياسية.
وأفاد التقرير بأن عدة دول بدأت تعد العدة للتصدي لهذه الهجمات وشن أخرى مضادة عبر الإنترنت.
ونقل عن أحد المحللين الأمنيين في المؤسسة، اسمه جريج داي، قوله إن ثمة خمس دول على الأقل شرعت في تسليح نفسها وحشد إمكاناتها الفنية، استعدادا للتعامل مع هذا الصنف من الصراعات، وهذه الدول هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وكوريا الشمالية.
وذكر هذا الخبير أن لدى الولايات المتحدة كتيبا عمليا يفصل القواعد والإجراءات التي ينبغي الالتزام بها في حالة خوض حرب الإنترنت. ونوه في هذا الصدد إلى أن الأمريكيين استخدموا أساليب قرصنة أثناء حملتهم لغزو العراق.
أضاف داي أن ثمة أدلة على ارتفاع عدد الهجمات عبر الإنترنت، التي يمكن تصنيفها بحسبانها من قبيل عمليات «الاستكشاف» الممهد لصراعات المستقبل. وأن السهولة التي تتسم بها عملية تجميع الوسائل التي تخاض بها تلك الحروب مثيرة للقلق الشديد.
وأوضح صاحبنا أن خوض حرب ميدانية بالأساليب والأسلحة الحديثة المعروفة يتطلب بلايين الدولارات. ولكن حرب الإنترنت لا تحتاج إلى تلك المبالغ المهولة.
إضافة إلى ذلك فإن أهداف حروب الإنترنت المحتملة هي البنية التحتية للدولة المستهدفة، لأن الشبكة الإلكترونية أصبحت تمتزج بحياتنا اليومية أكثر فأكثر. في حين أن الأهداف في الحروب التقليدية محدودة وليست دائما بذلك الاتساع الذي يشمل بلدا بأكمله، فيدمر إمكاناته ويصيب الحياة فيه بالشلل.
على صعيد آخر، فإن الحرب عبر الإنترنت تتمخض عن مشاكل من نوع مختلف فيما يتعلق بتحديد المهاجمين.
ففي الحرب الميداينة من الممكن جدا أن تعرف السلاح الذي يستخدمه خصمك وكيف يستخدمه. لكن في عالم الإنترنت فإن هذه المهمة تصبح مستعصية للغاية.
جدير بالذكر أنه رغم أن البلدان المتقدمة بدأت تعي خطورة هذا النوع من الحروب، فإن إنشاء نظام دفاعي فعال للتعامل معها يحتاج إلى سنوات، في حين لا تتطلب هجمات الإنترنت من مدبريها سوى أشهر لتنظيمها وشنها.
للأسف، إن التقدم العلمي لا يقترن عادة بالتحضر أو التقدم الأخلاقي، بدليل أن الدولة الوحيدة التي استخدمت القنبلة الذرية لإبادة البشر هي الولايات المتحدة «الأكثر تقدما» لم تتردد في إلقائها على هيروشيما ونجازاكي أثناء الحرب العالمية الثانية، رغم علمها بأن اليابان كانت بصدد الاستسلام ولم تكن هناك ضرورة تستدعي ذلك.
أرجو إذ ما قدر لنا أن ندخل ذلك العصر أن تكون صراعات المنتخبين المصري والجزائري قد انتهت، أو أن تكون كرة القدم قد فقدت بريقها الذي أصاب البعض بالبلاهة والجنون.
.......................
30 نوفمبر، 2009
حروب الإنترنت في الطريق
29 نوفمبر، 2009
براءة من حملة التسميم
براءة من حملة التسميم – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_29.html
http://fahmyhoweidy.jeeran.com/archive/2009/11/977762.html
هذا نداء يكتسب أهميته من أنه يستهدف تصحيح الإدراك، وصد الهجمة الغاشمة التى شنها نفر من الجهلاء والمتعصبين لتخريب وعى الأشقاء وتشويه الوشائج النبيلة التى تصل بينهم. وهو فى ذات الوقت بمثابة إعلان للبراءة من تلك الهجمة الغبية، وتأكيد على أن الذين يقومون بها ويشعلون نار الفتنة تذرعا بالوطنية لا يتحدثون باسم ضمير الأمة، وإنما هم يهينون ذلك الضمير ويبتذلونه.
لقد نشر النداء زميلنا الأستاذ جمال فهمى فى جريدة الدستور يوم الثلاثاء الماضى 24/11 . وحين اطلعت عليه بعد عودتى من سفرة خاطفة خارج مصر، وجدت أن واجبى يحتم على ليس فقط أن أوقع عليه مع كوكبة المثقفين الذين أعدوه وأيدوه، وإنما أيضا أن أسعى إلى إيصاله إلى أوسع دائرة ممكنة من المصريين والجزائريين والعرب أجمعين. إليك خلاصة النداء الذى تجاهلته أغلب وسائل الإعلام المصرية فى حين أتمنى أن يعلق على كل جدران مصر.
نحن الموقعين على هذا النداء، وقد روعنا ما نشهده الآن من نتائج خطيرة ومحزنة للتهور وانعدام المسئولية اللذين صنعا من تنافس رياضى برىء بين المنتخبين الكرويين لكل من مصر والجزائر «فتنة كبرى» بل حربا عبثية مخزية استبيحت فيها كل المحرمات وارتكبت وسط غبارها جرائم يندى لها الجبين.
وأسوأ ما فى تلك الحرب هو ذلك العبث الجاهل والخطير فى وعى وعقول جماهير البسطاء من الشعبين واللعب المتعمد على غرائزهم عن طريق ترويج وإشاعة الأكاذيب ومفاهيم ومقولات منحطة بلغت حد جرائم الإهانة الجماعية والتحقير العنصرى المقيت مما أدى إلى حرق علمى البلدين فى الشوارع والطرقات.
إننا إذ ندين بكل قوة وبدون تحفظ هذه الجرائم جميعا فإننا ندعو ونؤكد الآتى:
ــ أولا: تضامننا الكامل مع ضحايا الفتنة وكل مواطن أصابه ضرر فى بدنه أو كرامته أو ممتلكاته من جرائها. ونقف بقوة مع حقه فى المحاسبة القانونية والقضائية للمسئولين عنها والمتورطين فيها بالتحريض أو بالفعل المادى المباشر.
ــ ثانيا: ينبغى أن تبقى المحاسبة وما يسبقها من تحقيق واستقصاء ضروريين ضمن أطر القانون ومؤسساته وفى إطار الحفاظ على قيم الأخوة والمصالح المشتركة للشعبين وبعيدا عن روحية الانتقام والبحث العقيم عمن بدأ ومن الذى رد، انطلاقا من مبدأ أن الخطأ لا يبرر الخطأ والجريمة لا تواجه بجريمة أخرى.
ــ ثالثا: إن ما جرى لا يبدو بريئا ولا منزها عن شبهة تعمد التوظيف السياسى غير الأخلاقى وغير المسئول لحدث رياضى كان المفروض أن يكون عاديا وينحصر تناوله ضمن الاهتمام المناسب لحجمه.
لكن الشاهد أن هذا الحدث جرى اتخاذه مبكرا كذريعة ومناسبة لإطلاق عمليات شحن وتعبئة هائلة استخدمت فيها برعونة ترسانة ضخمة من وسائل الإعلام «صحف وقنوات تلفزة أرضية وفضائية» حكومية وخاصة اشتركت ــ عدا استثناءات قليلة للأسف ــ فى الخروج الفاضح على القواعد والمعايير المهنية والقيم الأخلاقية أيضا.
وقد نجحت تلك الترسانة الهوجاء فى إضفاء أجواء حربية وقتالية ملتهبة على ذلك الحدث الرياضى البسيط الأمر الذى يعزز الشك فى أن الهدف لم يكن الحث المشروع للجمهور على تشجيع فريق بلده وإنما صرف اهتمام وأنظار الناس وإلهاؤهم عن قضاياهم وهمومهم، وشغلهم بمعارك وهمية وعبثية وتعليق آمالهم وأحلامهم بانتصار أو إنجاز قد يحققه لاعبو الكرة فيدارى أو يستر مظاهر الفشل والإخفاق والفساد التى يكابدها الشعبان.
ــ رابعا: يدعو الموقعون على هذا النداء الإخوة أصحاب الضمير فى نخبة الفكر والثقافة والسياسة وصناع الرأى فى الجزائر الشقيق إلى الانضمام لهذه المبادرة وأن يرفعوا أصواتهم عالية بإدانة «الفتنة» ومن أشعلها وأن يمدوا أياديهم لتشتبك مع أيادينا لوأدها وإطفاء نارها من خلال تحرك عاجل يدعو إلى وقف فورى لهذا الانفلات الإعلامى الأهوج والعمل على تهدئة النفوس وحض المواطنين على ضرورة تحكيم العقل وإدراك حقيقة أن المستفيد الوحيد من المأساة الدائرة الآن هو فقط أعداء الشعبين الشقيقين داخل الحدود وخارجها. خصوصا هؤلاء الذين يريدون الحفاظ بأى ثمن على مصالحهم ومقاعدهم ومد عمر الوضع السياسى البائس القائم حاليا، الذى يفتقد فيه المواطن لأبسط متطلبات الحياة الكريمة ويعانى غياب ومصادرة حقه فى الحرية والديمقراطية والمشاركة فى صنع القرار والتداول السلمى للسلطة.
........................
28 نوفمبر، 2009
الشيطان الأصغر
الشيطان الأصغر – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_28.html
http://fahmyhoweidy.jeeran.com/archive/2009/11/977328.html
أرأيت الذي فعلته بنا وسائل الإعلام، حين لوثت مشاعرنا إزاء أشقائنا وخربت وعينا وأشاعت بيننا المرارة والبغضاء. ودفعتنا إلى مشارف القطيعة، وهي التي نفذت إلى حياتنا باعتبارها وسائل "للاتصال".
إذ ليس جديدا ذلك التوتر الذي يشيع بين الناس بسبب مباريات كرة القدم، لكن الجديد هذه المرة أن الفضائيات دخلت على الخط فأججت الحماس واستدعت إلى ساحة "المواجهة" قطاعات عريضة من المواطنين، لم تكن مباريات كرة القدم تمثل شاغلا أساسيا لها. وأقنعت الجميع بأن الفوز بالكؤوس والبطولات بات مسألة حياة أو موت بالنسبة للشعوب، بها تدخل التاريخ وبدونها تصبح بلا قيمة أو ذكر.
وقد أشرت قبلا إلى نص نشرته جريدة الأهرام قال فيه كاتبه إن فقراء مصر -لاحظ تخصيصه للفقراء- لم يعودوا يطلبون شيئا في حياتهم سوى أن تفوز مصر على الجزائر والتأهل لكأس العالم.
حدث ذلك في مصر بوجه أخص، لأن التليفزيون بقنواته الثلاث في الجزائر مملوك للدولة. وقد التزم الصمت إزاء ما جرى طوال الاسابيع الماضية، شأنه في ذلك شأن الصحف الرسمية وتعامل هؤلاء، وهؤلاء مع الأحداث بشكل خبري عادي، بعيدا عن الاشتباك والتراشق والإثارة، لكن الصحافة الخاصة المسموح بها هناك، هي التي أثارت الضجة، حين روجت للاكاذيب وتحولت إلى منبر لاشاعة التعصب والتشهير والبغض، للدقة فإن صحيفة أو اثنتين في الجزائر قادتا تلك الحملة الخبيثة سعيا وراء الاثارة أو التحريض والوقيعة.
وقد نجحت الصحيفتان للأسف الشديد في استدراج الإعلام المصري إلى الاشتباك الذي تدنى فيه مستوى التراشق، واستخدمت فيه أوصاف هابطة، واتهامات بذيئة، وهذه كانت عنصرا مهما في تعميق الشرخ وإشعال نار الفتنة.
ولأن الهبوط اسهل كثيرا من الصعود فإن بعض مقدمي البرامج تنافسوا في الاسفاف والتجريح واستبد بهم الانفعال حتى ذهبوا بعيدا في تجاوز الحدود المهنية والأخلاقية.
كان التليفزيون هو أهم أسلحة التعبئة والتحريض، لأنه الوسيلة الأسهل والأكثر جاذبية والأخطر في التأثير، ولذلك استحق أن يوصف بأنه "الشيطان الأصغر" الذي أشاع الفتنة وسمم مشاعر المواطنين العاديين، الذين لم تكن لديهم مشكلة يوما ما مع الجزائر، بل كانوا يذكرونها بكل اعتزاز وتقدير، وإذا بهم لا يطيقون ذكرها، بعدما شحنهم البث التليفزيوني بفيروسات النفور والمرارة.
لا أبالغ إذا قلت إن الإعلاميين هزموا المثقفين ونجحوا في أن ينقلوا الوباء إلى بعضهم. صحيح أن النداء الذي وجهه المثقفون في أواخر الاسبوع الماضي أثبت أن قاعدة عريضة منهم مازالت محصنة ضد السوقية والابتذال، ومن ثم مازالت محتفظة بوعيها وسلامة إدراكها، إلا أن هناك اختراقات محزنة لذلك الموقف ظهرت بوادرها في الاسبوع الماضي.
إذ صدمت حقا واستغربت جدا أن يقدم المحامون على احراق العلم الجزائري، وهو التصرف الذي استهجناه حين صدر عن بعض الغوغاء الجزائريين الذين أحرقوا العلم المصري،
ودهشت حين قرأت أن قسم اللغة العربية بكلية آداب عين شمس قرر وقف استقبال الطلبة الجزائريين لحين صدور اعتذار رسمي من حكومة بلدهم،
وتملكتني نفس الدهشة حين علمت أن أساتذة جامعة الأزهر طلبوا من الحكومة المصرية قطع علاقاتها مع الجزائر.
واختلطت الدهشة بالحزن حين قرأت مقالة مثقف محترم هو الدكتور يوسف زيدان التي نشرتها صحيفة "المصرى اليوم" في 25 /11 حين وجدت أنه تبنى فيها خطاب النفور والتحقير الذي انطلق منه مقدمو برامج التليفزيون،
إذ قال مثلا إن مصر انفقت من أموالها لكي تجعل الجزائريين عربا (رغم انهم قاتلوا الفرنسيين بشراسة دفاعا عن عروبتهم)،
ووصف الجزائريين الذين عرفهم في مرحلة الدراسات العليا بانهم "مثال للغباء والتعصب"،
كما وصف الجزائر البلد بأنها "الوجود القاحل"،
بل دعا إلى قطع العلاقات معها، معتبرا أن ذلك لن يضر مصر في الأجلين القريب أو البعيد.
إننا لانستطيع أن ندين الإعلام ونغلق الملف، لاننا ينبغي ألا نتجاهل السؤال:
ما هي طبيعة وحدود العلاقة بين الإعلام والسياسة فيما جرى؟.
.................................
26 نوفمبر، 2009
دفعنا ثمن تغييب الحقيقة
صحيفة الرؤية الكويتيه الخميس 9 ذوالحجة 1430 – 26 نوفمبر 2009
دفعنا ثمن تغييب الحقيقة – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_26.html
http://fahmyhoweidy.jeeran.com/archive/2009/11/976376.html
حين قال وزير الإعلام المصري إن هناك من يقول إن جزائريا هو الذي ألقى الحجر على الحافلة التي أقلّت المنتخب الجزائري قبل مباراة القاهرة التي فاز فيها المنتخب المصري، فإنه قدّم لنا رواية جديدة أضفت مزيدا من الالتباس والغموض على ما حدث وقتذاك.
وحين انبرى الوزير أنس الفقي للدفاع عن موقف التهييج والتحريض الذي تبنته القنوات الخاصة أثناء الأزمة، فإنه قال إن تبادل الأدوار مطلوب في هذه المرحلة، وليس هناك ما يمنع من أن يطلب من تلك القنوات أن تقول ما لا تسمح به قنوات التلفزيون الرسمي،
وهو كلام لا يعني إلا شيئا واحدا هو أن اللوثة التي أصابت مقدمي البرامج في بعض تلك القنوات، لم تكن كلها غضبا لكرامة مصر، وإنما أيضا استجابة لتوجيه رسمي، عبّر عنه كلٌّ بطريقته.
هذا الكلام نشرته صحيفة «المصري اليوم» أمس (25 نوفمبر الجاري) وعرضت فيه خلاصة لما دار في اجتماع ثلاث من لجان مجلس الشعب (الشباب والشؤون العربية والأمن القومي) وهو يسلط بعض الضوء على جوانب مسكوت عنها ما جرى قبل وبعد الموقعة البائسة التي شهدتها الخرطوم يوم 18 من الشهر الحالي، ذلك أن ثمة قرائن وشواهد عدة حدثت في تلك الفترة، لم تستوقفنا، وتجاهلناها في غمرة الانفعال والحماس والصياح الذي روجت له وسائل الإعلام المختلفة.
قبل أن أسترسل ألفت النظر إلى انه ليس عندي أي دفاع أو تبرير لما حدث في الخرطوم، وأكرر ما سبق أن قلته من أن الوقائع التي تحدث عنها الرواة وتناقلتها وسائل الإعلام المصرية إذا صحت، فإنها تشكل جريمة مسيئة ليس فقط للشعب المصري، وإنما مهينة للشعب الجزائري أيضا، ولعل الذين يقرأون هذه الزاوية يذكرون أنني منذ اليوم الأول دعوت إلى التحقيق فيما جرى، حتى نبني أحكامنا ونحدد مواقفنا في ضوء معلومات تم التثبت من صحتها وليس انطباعات وليدة الصدمة والرعب، قد تكون صحيحة وقد تتعرض للمبالغة والتحريف.
لايزال مطلب التحقيق قائما، لأننا مازلنا تحت تأثير الصدمة والانفعال اللذين لايزال الإعلام المصري ينطلق منهما، كما أن أصداءهما واضحة في خطابنا السياسي الذي عبرت عنه شخصيات نافذة في السلطة ولولا أن البيانين اللذين صدرا عن المثقفين المصريين عبرا عن موقف شريف ونزيه من الأزمة لبدا منظرنا فاضحا ومخجلا للغاية.
ولتصور أي مطل علينا من الخارج أننا نعيش في بلد فقد عقله بيد نفر من المهيجين والحمقى الذين شرعوا في تدمير سمعة البلد بدعوى محبته والغيرة على كرامته.
ما دعاني إلى استدعاء هذه الخلفية، ليس فقط إشارة وزير الإعلام إلى احتمال أن يكون الذي ألقى الحجر على حافلة المنتخب الجزائري واحدا من الجزائريين، وهو ما لم نسمع به من قبل، وإنما أيضا أن أحدا لم يتحدث عما جرى للمشجعين الجزائريين في ذلك الوقت وبعد المباراة.
والمعلومات التي تلقيتها بهذا الخصوص من أكثر من مصدر أن بعض المتعصبين والغوغاء المصريين تحرشوا بالجزائريين واعتدوا عليهم بالضرب بعد المباراة، وأن الشرطة أرادت تأمين المشجعين الجزائريين، فطلب منهم البقاء في الاستاد وعدم مغادرته حتى يهدأ انفعال المتعصبين المصريين ولذلك فإنهم اضطروا للاحتماء بالاستاد طوال 3 ساعات بعد المباراة،
وعلمت أن اعتداءات المشجعين المصريين طالت الحافلة التي أقلت المنتخب الجزائري، كما طالت إحدى سيارات البعثة الديبلوماسية الجزائرية في القاهرة، مما أدى إلى إصابة اثنين منهم أحدهما الملحق العسكري.
قيل لي أيضا إن بعض المتعصبين المصريين ألقوا حجارة على مساكن بعض الجزائريين في منطقتي 6 أكتوبر وحدائق المعادي، وأن بعض محلات البقالة رفضت التعامل معهم، ومنهم من علق في مدخل متجره لافتة تقول لا تتعامل مع جزائريين.
وإزاء هذه المشاعر غير الوديعة فإن أعدادا كبيرة من الجزائريين المقيمين في مصر قرروا مغادرتها، حتى إن 800 من بين ألف طالب جزائري للدراسات العليا في معهد البحوث والدراسات العربية قطعوا دراستهم وعادوا إلى بلادهم، جراء التخويف والترويع الذي تعرضوا له.
رغم أن هذا كله ــ إذا صح ــ لا يقارن بما حدث في الخرطوم، فإننا كان يجب أن نتحقق منه وأن ندينه منذ اللحظة الأولى، خصوصا أن موقف الأمن المصري كان حاسما إزاءه،
ولا ينبغي أن نتجاهل أن ذلك السكوت هو الذي هيأ الفرصة للصحف الجزائرية الصفراء أن تبالغ فيما جرى، وأن تستثير الجمهور الجزائري الجاهز للانفعال في مباريات كرة القدم، حتى ان نسبة غير قليلة ذهبوا إلى الخرطوم للثأر وليس للتشجيع فقط،
وكانت النتيجة أننا دفعنا ثمنا غاليا لقاء طمس الحقيقة وإخفائها، وهو الدرس الذي يبدو أننا لا نريد تعلمه أبدا.
.................
25 نوفمبر، 2009
القمع أصل المشكلة
صحيفة الرؤية الكويتيه الأربعاء 8 ذو الحجة 1430 – 25 نوفمبر 2009
القمع أصل المشكلة – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_25.html
http://fahmyhoweidy.jeeran.com/archive/2009/11/975876.हटमल
حين انتقد وزير الخارجية الفرنسي قمع الحكومة التونسية للصحافيين، غضب الرئيس زين العابدين بن علي، واعتبر ذلك مساسا بسيادة بلاده وتدخلا في شؤونها الداخلية.
ولم يكن الوزير برنار كوشنير الوحيد الذي انتقد موقف الحكومة التونسية، وإنما كان ذلك أيضا موقف الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي ندد بسجل تونس في مجال انتهاكات حقوق الإنسان، وبعمليات المصادرة والمحاكمة التي يتعرض لها الصحافيون التونسيون المستقلون.
ردت وزارة الخارجية التونسية على كوشنير ببيان قالت فيه إنه لا يحق لأي عضو في حكومة أجنبية، وإن كانت صديقة، أن يلعب دور القاضي أو الرقيب على بلد آخر.
وفي إشارة إلى موقف الحزب الاشتراكي الفرنسي ذكر البيان أن تونس بلد مستقل منذ عام 1956، وليس لأي جهة فرنسية أن تفرض وصايتها عليه.
وفي خطاب له أمام البرلمان بمناسبة أداء القسم قال الرئيس بن علي:
«إن هذا التدخل يتجاوز المساس بسيادة بلادنا لينال كذلك من سيادة المغرب والاتحاد الأفريقي الذي ننتمي إليهما»،
وذكر أن حكومته أحالت الموضوع على رئاسة كل منهما لاتخاذ اللازم والتصدي لهذه الخروقات التي تتنافى مع مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها.
خصص الرئيس التونسي جزءا غير قليل من خطابه لمهاجمة معارضيه، الذين اتهمهم باللجوء إلى الخارج والاستقواء بالأجنبي، وقال
«إن الوطني الحقيقي هو الذي لا ينتقل بالخلاف مع بلاده إلى الخارج للتشويه والاستقواء بالأجنبي، فهذا السلوك مرفوض أخلاقيا وسياسيا وقانونيا وهو لا يجلب لصاحبه إلا التحقير حتى من أولئك الذين لجأ إليهم لتأليبهم على بلاده، كما أن هذا السلوك لا يمنح أي حصانة».
ذلك كله من قبيل الحق الذي يراد به باطل، فالتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية لأي بلد مرفوض، والاستقواء بالأجنبي مرفوض بدوره. والمساواة أمام القانون مطلوبة بشدة.
ولكن خلفية الزوبعة تسلط الضوء على الباطل الذي يتخفى وراء هذا الكلام الجميل. ذلك أن هناك مشكلة دائمة بين الحكومة التونسية ومنظمات حقوق الإنسان في العالم الغربي، بسبب سجلها المشين في هذا المضمار. إذ تحتل الانتهاكات التونسية لحقوق الإنسان مكانا ثابتا في تقارير تلك المنظمات
. وبسبب المتابعات الفرنسية لما يجري في شمال أفريقيا والعلاقات الثقافية المستمرة منذ سنوات الاحتلال فإن ممارسات النظام التونسي وفضائحه المختلفة يلاحقها الإعلام الفرنسي أولا بأول.
وقد أزعج الحكومة التونسية كثيرا أن كتابا صدر أخيرا في باريس كشف النقاب عن الدور الذي تقوم به قرينة الرئيس بن علي وأفراد أسرتها في السيطرة على الموارد الاقتصادية للبلاد، إضافة إلى دورهم السياسي المتصاعد.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير واستدعت هذه الأصداء الأخيرة، فهي أن السلطات التونسية ألقت القبض على أحد الصحافيين الناقدين للرئيس بن على- اسمه توفيق بن بريك- بعد أن لفقت له تهمة الاعتداء بالضرب على إحدى السيدات.
وحين قدم إلى المحاكمة بهذه التهمة، فإن وزير الخارجية الفرنسي، انتقد هذا التصرف وطالب بالإفراج الفوري عنه، وعن أمثاله من الصحافيين الذين يضطهدهم النظام التونسي. وهو ما رتب الأصداء سابقة الذكر، وأدى إلى توتير العلاقة بين البلدين.
ليس عندي أي دفاع عن التدخل الأجنبي، لكن فقط أقول إن ممارسات الأنظمة القمعية هي التي تستدعيه، لذلك فإننا إذا أردنا أن نغلق الباب في وجهه حقا، فينبغي أن نطالب تلك الأنظمة بمراجعة سياساتها أولا، لكي يحتمي المظلومون والمضطهدون بقوانين بلادهم وضمانات العدالة المستقلة فيها، ولا يضطرون إلى الاستغاثة بالمنظمات الحقوقية الدولية، وهذه وحدها التي يمكن أن يقبل منها التدخل عند الضرورة.
أما تدخل الدول فإنه يظل خطا أحمر لا يمكن القبول به تحت أي ظروف، ولنا فيما جرى بالعراق درس وعبرة.
...................
24 نوفمبر، 2009
يسألونك عن التوريث – المقال الأسبوعي
صحيفة الخليج الإماراتيه الثلاثاء 7 ذوالحجة 1430 – 24 نوفمبر 2009
يسألونك عن التوريث – فهمي هويدي – المقال الأسبوعي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_24.html
http://fahmyhoweidy.jeeran.com/archive/2009/11/975326.html
أرأيت كيف هان أمرنا وخاب أملنا حتى صارت أوطاننا تركة تورّث، وأصبحت شعوبنا كتلاً آدمية مصلوبة على أوهام ووعود لم تتحقق.
(1)
حدثني صديق أنه حضر في الستينات معسكراً لمنظمة الشباب أقيم في مدينة حلوان، وضم نخبة من طلاب الجامعات النابهين الذين ملأتهم أجواء ذلك الزمان بالثقة والطموح، وفي المحاضرات التي ألقيت عليهم وقتذاك رددوا على مسامعهم عدة مرات أن واحداً منهم سيكون رئيساً لجمهورية مصر في المستقبل. صدق صاحبنا الكلام، واقتنع بأن المستقبل مفتوح أمام ذلك الجيل.
وطوال السنوات الأربعين الماضية لم يتحقق شيء مما سمعه، ولكن ظلت أحلام جيله تتبخر واحداً تلو الآخر، وإذ جاوز الستين من العمر هذه الأيام، فإنه انتهى يائساً. وفاقداً الأمل في كل شيء، وغير قادر على أن يصدق ما يقال عن توريث السلطة في مصر.
في العدد الأخير من الطبعة العربية لمجلة “نيوزويك” (17/11) كتب أحد المثقفين اليمنيين يقول عن الرئيس علي عبدالله صالح إنه أمضى في موقعه 31 عاماً صادر خلالها أحلام الوطن وأباد كل أسباب وممكنات وجوده وتقدمه، وظل عائقا أمام قدرتنا على التفكير بما يمكن الوطن من استعادة أمله في أن ينهض من كبواته المستدامة وتعثره المزمن..
ولئن كان محور اهتمام القادة الحقيقيين في العالم هو الإنسان والوطن والتقدم، فإن محور اهتمام قائدنا هو العرش ونقله ميراثاً لأجياله. فسيج البلاد بكل أسباب انتقاله، ولغم معابر الوصول إليه بكل أشكال الفوضى، وإبداع صناعة الملهاة”.
لا نحتاج إلى مزيد من الشواهد حتى ندلل على أن توريث السلطة أصبح بدعة هذا الزمان في الجمهوريات العربية، التي ظننا حيناً من الدهر أن انتقالها من النظام الملكي إلى الجمهوري هو خطوة إلى الأمام، لكنه ظن خيّبته تجربة الدول العربية الحديثة، التي أجهضت الآمال المبكرة التي علقت عليها،
إذ أصبح التوريث حاصلاً أو وارداً في ست دول عربية، بعضها تم فيها ذلك بصورة رسمية،
والبعض الآخر صار التوريث واقعاً فيه لكنه لم يستكمل شكله القانوني بعد،
أما البعض الثالث فالتوريث في مرحلة الإعداد والترتيب.
(2)
كانت سوريا سباقة في هذا الباب، فقد عدل دستورها وتم تخفيض شرط السن لتمكين بشار الأسد، الذي كان عمره وقتذاك 34 سنة، من شغل منصب رئيس الجمهورية وهو ما تم سنة 2000.
وبعدما انفتح الباب طُرح بقوة اسم السيد جمال مبارك في مصر، الذي يتولى الآن أمانة السياسات في الحزب الوطني. وثمة شبه إجماع في الدوائر السياسية على أن الرئيس القادم لمصر، في انتخابات عام ،2011 سيكون جمال مبارك (46 عاما) إذا لم يرشح الرئيس مبارك نفسه. وترشيح مبارك الابن ليس آتياً من فراغ، ولكنه ينبني على شواهد عدة، أهمها أن تعديل المادة 76 من الدستور المتعلقة بالترشح للرئاسة في مصر، وضع شروطاً لا يمكن أن تنطبق إلا على مرشح الحزب الوطني.
ومعلوم أن الحزب في ظل الأوضاع الراهنة لن يرشح للرئاسة غير أمين السياسات فيه، الذي يقوم الآن بدور لا يستهان به في صناعة القرار السياسي.
النموذج المصري تكرر في ليبيا بصورة نسبية، إذ مثلما برز دور جمال مبارك في المجال العام وانشئت له أمانة السياسات، لكي يتولى من خلالها توجيه مختلف مجالات الشأن الداخلي، فإن المهندس سيف الإسلام القذافي (37 سنة) بعدما قام بعدة أدوار في سياسة بلاده الداخلية والخارجية، عين أخيراً منسقاً عاماً للقيادات الشعبية، وهو أعلى منصب في السلطة بعد العقيد القذافي.
وقيل إنه كان ينبغي أن يتولى ذلك المنصب “لكي ينفذ مشروعه الإصلاحي لبناء ليبيا الغد”. الأمر الذي رشحه بصورة مباشرة لخلافة والده على رأس السلطة.
لم يعد سراً أن الترتيبات في اليمن تمضي في ذات الاتجاه، إذ يتردد بقوة اسم المقدم أحمد ابن الرئيس علي عبدالله صالح، باعتباره المرشح لخلافة والده، وهو يشغل الآن منصب قائد الحرس الجمهوري رغم أنه في العشرينات من عمره. ولضمان ذلك فإن الأسرة تمسك بمفاتيح أجهزة الأمن في البلد. فعمار ابن عمه مسؤول عن الأمن القومي، وشقيقه يحيى الرجل القوي في وزارة الداخلية، والأخ غير الشقيق للرئيس علي محسن يقود الجيش في المناطق الشمالية.
“الطبخة” جارية على قدم وساق في تونس. ذلك ان الرئيس زين العابدين بن علي عدل دستور بلاده لكي يسمح له بالبقاء في السلطة مدى الحياة، في عودة لما كان عليه الحال في عهد الرئيس بورقيبة الذي أخذ عليه بن علي رئاسته المؤبدة وأعلن في عام 1987 أنها ستكون لمدتين فقط وبعد ذلك اتجه إلى ترتيب أمر خلافته، فدفع صهره وزوج ابنته محمد صخر الماطري (28 سنة) إلى الصف الأول من المشهد السياسي، حيث أصبح عضواً في اللجنة المركزية للحزب الدستوري الحاكم، ثم انتخب مؤخراً عضوًا في مجلس النواب.
وهو في الوقت نفسه يدير امبراطورية مالية كبيرة تضخمت في عهد صهره. إذ إضافة إلى تأسيسه إذاعة “الزيتونة” للقرآن الكريم، فإنه أسس الآن بنك الزيتونة، وله أسهم في بنك الجنوب، إضافة إلى استحواذه على 70% من أسهم دار الصباح، أعرق المؤسسات الصحافية في تونس. كما أنه يدير شركات عدة في مجالات الصناعات الدوائية والعقار والسياحة.
الأخ غير الشقيق للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة يهيأ بدوره لخلافته، وهذا الأخ (سعيد) يشغل الآن منصب الطبيب الخاص للرئيس وكاتم أسراره، لذلك فإنه يلازم الرئيس عبدالعزيز في كل جولاته الخارجية. وقد أقدم مؤخرا على تقديم طلب لإنشاء حزب باسم التجمع من أجل الوفاق الوطني، يأمل أن يخوض به الانتخابات، ويفتح له باب تحقيق طموحاته السياسية.
(3)
هناك مدرستان في التوريث، بمعنى الاستمرار في احتكار السلطة وإبقائها في نطاق الأسرة، بما يحولها إلى ملكية مقنعة،
مدرسة “الغلبة” التي تقوم على فرض الامر الواقع بقوة السلطة وأدواتها،
ومدرسة اصطناع الشرعية. والأخيرة أصبحت أكثر رواجاً، بعدما أصبح “المنظر” في الحالة الأولى مستهجنا في الأجواء الراهنة التي يروج فيها الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ثم إن تطور أساليب الالتفاف والاحتيال على الشرعية، رجح كفة المدرسة الثانية.
إذ بات من اليسير تصعيد الوريث في مراتب السلطة مع إغلاق الأبواب في وجه أي منافس محتمل له، بحيث يصبح خيارا وحيدا يمكن دفعه إلى الصف بسهولة، بالقانون الذي يتم تفصيله ليناسب الحالة، ومن خلال المؤسسات “الشرعية” التي يجري اصطناعها.
من الحجج التي تساق لتبرير الانتقال وتغطيته أن الوريث مواطن عادي، له حق الترشيح كغيره من المواطنين، ولا ينبغي أن يحرم من هذا الحق “ويظلم” لمجرد أنه ابن الرئيس، أو عضو في أسرته.
وهو قول مردود بحجتين،
الأولى أنه في كل أحواله لا يعامل باعتباره مواطناً عادياً، ولكنه يظل طوال حكم الأب مواطناً من الدرجة الأولى الممتازة، الذي يعمل له ألف حساب. فلا ترد له كلمة أو يرفض طلب. وفي حركاته وسكناته فإنه يعامل باعتباره مواطنا غير عادي. يتمتع بنفوذ وصلاحيات لا تتاح لأي شخصية سياسية أخرى.
الحجة الثانية أن ترشحه في وجود الرئيس أو استنادًا إلى بطانته مشوب بالبطلان من الناحية السياسية. والقياس هنا على ما هو وارد في القانون من ضمانات لضمان حيدة القاضي ونزاهته، ذلك أن المادة 146 من قانون المرافعات في مصر مثلا تنص على عدم صلاحية القاضي للسير في أي دعوى، إذا كانت له أو لزوجته أو لأحد أقاربه مصلحة فيها. وهذا البطلان يتحقق حتى ولو لم يتمسك به أحد. فالمشرع هنا كان واعيا بأن أي صلة قرابة تربط القاضي بأي واحد له مصلحة في أي قضية تعرض عليه وقرر أن تلك الصلة تجعله غير صالح للنظر في الدعوى، لأن شبهة عدم الحياد قائمة في هذه الحالة.
وإذا كان ذلك حاصلا في القضايا المدنية والجنائية مهما صغر شأنها، فأولى به أن يحدث في أمر يتعلق بمصير الوطن ومستقبله، الأمر الذي يعني أنه لا يجوز بأي معيار أن يترشح ابن للرئاسة أو لأي منصب رسمي آخر في ظل رئاسة الأب وهيمنته على أجهزة الدولة، لأن ذلك يخل بنزاهة الحكم واستقامته.
(4)
صحيح أن التوريث الذي يحول الجمهوريات إلى ملكيات مقنعة ليس حكراً علينا. لكنه حاصل في بلدان أخرى، في كوريا الشمالية وأذربيجان وكوبا وتاهيتي، وبعض الدول الإفريقية الأخرى. مع ذلك فالقاسم المشترك الأعظم بين كل تلك النماذج وبين الحالات المماثلة في بلادنا يتمثل في أنها دول غيبت الديمقراطية، ودمرت فيها مؤسسات المجتمع المدني. بما يعني أنه ما كان لتلك الدول ان تتجرأ على توريث السلطة فيها إلا أنها اطمأنت إلى إخصاء مجتمعاتها وإفقادها القدرة على إيقاف أو مقاومة نقله من هذا القبيل،
بكلام آخر فإن الدولة العربية الحديثة التي انتقلت بعد ذهاب الاستعمار من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، حين عمدت نظمها إلى احتكار السلطة ومصادرة الديمقراطية، فإنها اضعفت مجتمعاتها وقامت بتفكيكها، حتى أعادتها إلى مرحلة القبيلة السابقة على فكرة الدولة بمفهومها الحديث.
أريد أن أقول إن السلطة المطلقة حين نجحت في إضعاف مجتمعاتنا وتفكيكها فإنها لم تجد عائقا يحول دون إدامة ذلك الاحتكار من خلال التوريث، الذي يمكنها من أن تضرب عصفورين بحجر واحد.
فمن شأن ذلك أن يضمن لأهل الحكم الاستمتاع بمباهج السلطة والتقلب في نعيمها وجاهها،
كما انه من ناحية ثانية، يضمن التغطية على المكاسب والثروات الهائلة التي تحصلت أثناء البقاء في السلطة، كما يضمن التغطية على الممارسات والتجاوزات التي ارتكبت في تلك الفترة.
على صعيد آخر، أزعم أن ذلك النزوع إلى التوريث يلقى ترحيباً وتشجيعاً من القوى الأجنبية المهيمنة في المنطقة العربية، والولايات المتحدة الأمريكية على رأسها. وعندي في ذلك أسباب وقرائن هي:
* إن هذه القوى أصبحت مطمئنة إلى أن الأوضاع الراهنة في العالم العربي تحقق لها مصالحها وتوفر لها وضعاً استراتيجياً مريحاً للغاية، ولذلك فإن استمرار تلك الأوضاع بأي صورة وبأي ثمن أصبح هدفاً غالياً يتعين الحفاظ عليه.
* إن المخططين في تلك الجهات بذلوا جهداً مشهوداً في رعاية وإعداد الأجيال الجديدة من الأبناء الذين تلقى أكثرهم تعليماً في الخارج، ولذلك فإن لديهم اطمئناناً كافياً إلى أن عناصر تلك الأجيال لن تكون أقل تجاوبا ووفاء إذ لم نكن أكثر من جيل الآباء.
* إن القوى الخارجية لم تعد مطمئنة إلى البدائل التي يمكن أن تصل إلى الحكم في العالم العربي إذا ما لم يتم التوريث وجرت انتخابات ديمقراطية. إذ هم يدركون جيدا أن الرأي العام العربي يملك الكثير من مشاعر الرفض والبغض للسياسة الأمريكية.
والانتخابات الديمقراطية قد تأتي بمن يعبر عن تلك المشاعر. ومن ثم يهدد المصالح الأمريكية، وهو ما يمكن أن يحدث إذا ما أتت الانتخابات بعناصر وطنية، والخوف الأكبر أن ينجح أصحاب التوجه الإسلامي، كما حدث في غزة، وإزاء مخاطر من هذا القبيل فإن التوريث من وجهة نظرهم يصبح الحل.
(5)
من هذه الزاوية تبدو صورة المستقبل معتمة في العالم العربي، أقصد أشد قتامة مما هي عليه الآن. لكن سنن الكون تقول لنا إن الليل له نهاية وإنه لا توجد هناك غيوم أبدية،
وذلك لا يطمئننا كثيراً لأننا ننتظر ذلك الوعد منذ عقود، ولكن أوان تحقيقه لم يحن بعد كما بدا، ثم إننا لا نعرف كم تكون التكلفة في هذه الحالة، لأن السنن لا تجرى بالمجان،
وهناك أسباب ينبغي أن تتوافر أولا لكي تستجلب النتائج وتستدعيها، ومن الواضح أننا لم نأخذ بعد بما يكفي من الأسباب لكي تترتب النتائج المرجوة، والله أعلم.
............................
23 نوفمبر، 2009
بنينا المجلس وتنقصنا الشورى
المشكلة أكبر من مجلس الشورى وصلاحياته المحددة، لأن نظامنا السياسي يرفض المشاركة والمساءلة من الأساس. ويعتبر غياب دوره وضعا مريحا ومثاليا. وذلك أوضح ما يكون في مجلس الأمة، الذي يفترض من الناحية القانونية أنه الممثل الحقيقي للمجتمع (المعينون فيه عشرة من بين 454 عضوا)، فضلا عن أنه يعول عليه في إصدار التشريعات والرقابة على السلطة التنفيذية. لكنه من الناحية العملية يتحرك في مساحة لا تجاوز كثيرا حدود ما هو متاح لمجلس الشورى. إذ هو مجلس للتمرير والتأييد بأكثر منه للتشريع أو الرقابة. والقاسم المشترك الأعظم بين المجلسين أنهما من نماذج الفصل بين الأشكال والوظائف في بعض دول العالم الثالث، التي تحرص على توفير جميع متطلبات الشكل الديموقراطي من تجهيزات ومبان. في حين لا تسمح بشيء يتصل بأداء الوظائف وترسيح القيم والمعاني. مبروك علينا «العمارة» ومقارعة مبنى مجلس اللوردات، لكن ذلك الإنجاز يظل وساما على صدر شركة «المقاولون العرب»، لا شأن له بالشورى أو الديموقراطية. ونرجو أن يطول بنا العمر حتى نرى لشاغلي العمارة دورا في الشورى.
21 نوفمبر، 2009
درس الصين الذى لم نتعلمه
لسنا بصدد تعاون ولا تحالف، لأننا لسنا في موقف الأنداد، كما أن الصين ليست جمعية خيرية تتبرع بالعون ولكنها دولة كبرى لها مصالح وأهداف استراتيجية تتوخاها، ولا يعيبها ذلك. وهي النجم الصاعد الذي يعمل الجميع حسابه في القرن الواحد والعشرين، ولا غضاضة في الاستفادة من معوناتها وخبراتها، وهذه الاستفادة ينبغي أن تكون واعية وحذرة، بحيث لا تؤدي مثلا إلى تعزيز الوجود البشري الصيني الذي ظهرت مقدماته في عدد من العواصم الأفريقية، وهي الملاحظة الصائبة التي عبر عنها وزير الخارجية الليبي موسى كوسا، عقب الجلسة الافتتاحية لمؤتمر شرم الشيخ.
لست مشغولا في الوقت الراهن بتكييف العلاقة مع الصين، ولكني تطرقت إلى نقد مسألة التعاون والتحالف من باب التعبير عن الغيظ فقط إزاء استخدام مفردات اللغة في التدليس على القارئ وإعطائه انطباعات مغلوطة، بحسن أو سوء نية، ذلك أن شاغلي الأساس ينصب على درس الصين وليست منتجاتها أو معوناتها. ذلك أن الخبراء المتابعين للتجربة الصينية لهم كلام كثير حول العوامل التي أدت إلى إنجاحها بالشكل المثير الذي تشهده الآن، لكن ما يهمني في هذه العوامل أمران تمنيت أن نستعيدهما ونسلط الضوء عليهما في مناسبة انعقاد المؤتمر، الأمر الأول أن الزيادة السكانية ليست عبئا دائما ولا هي كارثة إلا عند الذين يفشلون في التعامل معها، وتحويلها إلى طاقة إنتاج مضافة، وهذه الزيادة تشكل عائقا يحول دون التقدم في حالة واحدة. تتمثل في فشل السلطة التي تدير المجتمع في استثمارها على نحو رشيد، بحيث تتحول إلى رافعة للتقدم وليس قيدا يكرس التخلف.ان المسؤولين في بلد مثل مصر لا يكفون عن تقريع المجتمع لأن نموه السكاني يصدمهم ويفشل خططهم للتنمية، في حين أن معدلات النمو معروفة للكافة ولا مفاجأة فيها. والمفاجأة الوحيدة انهم يخفون عجزهم عن تلبية احتياجات ذلك النمو ويستعيضون عن ذلك بلوم الناس والتنديد بهم، ورغم فشلهم هذا، فإنهم يظلون متمسكين ببقائهم في السلطة وإصرارهم على احتكارها. يشجعهم على ذلك أنهم مطمئنون إلى أن أحدا لن يحاسبهم على عجزهم وفشلهم.
الأمر الثاني أنه ليس في التقدم سر لأن قوانينه معروفة والشرط الوحيد المطلوب لتحقيق النهوض باستخدام تلك القوانين هو توافر العزيمة الجادة والإرادة المستقلة. وهي النقطة التي ألمحت إليها في المؤتمر الذي عقد أخيرا في دبي لإطلاق تقرير المعرفة العربي لعام 2009 الذي صدر بالتعاون بين البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بالتعاون مع مؤسسة محمد بن راشد. وكان التقرير قد أكد على ضرورة توافر ثلاثة عوامل لتحقيق النهضة، هي المعرفة والحرية والتنمية. إذ قلت إن تلك عوامل مهمة لا ريب، لكن تجربة الصين أثبتت أن التنمية يمكن أن تتم في غيبة الحرية، وأنه إذا توافرت العزيمة والإرادة المستقلة فإن ذلك الهدف يمكن بلوغه بغير عقبات. وليس ذلك إقلالا من شأن الحرية التي تكفلها الديموقراطية، والتي توفر للتنمية بعدا إنسانيا ضروريا، وإنما تأكيدا على دور الإرادة المستقلة في إطلاق عملية التنمية، وكون التلازم ليس شرطيا بينها وبين الحرية.
لا يعيبنا ألا نكون أندادا للصين أو لغيرها من الدول الكبرى، لكن يعيبنا أن ندعي لأنفسنا ندية مزيفة، كما يعيبنا ألا نتعلم من خبرات غيرنا وفضائلهم لكي نعزز من قدراتنا الذاتية، بما يحقق النهوض لأمتنا ويحفر لها مكانتها في مجرى التاريخ، بدلا من أن تبقى خارجة أو متفرجة عليه.
مطلوب تحقيق فيما جرى
لقد أدركت مما سمعت أن آلاف الجزائريين الذين قدموا إلى السودان كان بينهم أناس لم يحضروا لتشجيع فريق بلادهم فقط، وإنما جاءوا أيضا للثأر من المصريين، بعدما نجحت الصحف الجزائرية الصفراء في تحريضهم وإثارة مشاعرهم، خصوصا حين أشاعت أن 8 قتلى جزائريين سقطوا أثناء المباراة الأولى بين الفريقين، وروّجت أكاذيب ادعت أن الفريق الجزائري تعرّض للعدوان ولعملية ترويع حين جاء إلى القاهرة. وإزاء استمرار عمليات التسميم والتهييج، فإن نفرا من القادمين من الجزائر جاءوا في الجولة الثانية بنية تصفية الحساب، حتى إن منهم من ذهبوا إلى أسواق الخرطوم واشتروا كميات كبيرة من السكاكين والسنج والمطاوي، التي استُخدمت في اعتراض طريق المشجعين المصريين والاعتداء عليهم.
لا مفرّ من الاعتراف بأن ما جرى أحدث جرحا عميقا في نفوس المصريين يتعذر علاجه في الوقت الراهن، ولا نستطيع أن نحمّل الشعب الجزائري المسؤولية عنه، لأن الجماهير الغاضبة التي شنت غاراتها على تجمّعات المصريين وحافلاتهم جاءت مشحونة بالمرارة، ومملوءة بالنقمة والغضب، وكانت واقعة تحت تأثير الإعلام الذي عمد إلى الاتجار بالفتنة وأصرّ على تأجيجها. المدهش أن ذلك حدث رغم فوز الجزائريين، ويعلم الله وحده ما كان يمكن أن يحدث لو أن فريقهم خسر المباراة.
بسبب ذلك، فإنه لا سبيل إلى تجاوز الجرح، ومن ثم ترميم العلاقات المصرية ـ الجزائرية إلا بإجراء تحقيق محايد فيما جرى، سواء في القاهرة أو في الخرطوم، حتى تتبين الحقائق للجميع، وتنفضح الأكاذيب والدسائس، وتنقشع الغشاوة عن الأعين التي كانت ضحية للدسّ والتحريض والإثارة. وفي ضوء ذلك التحقيق ينبغي أن يحمل كل طرف مسؤولية ما نُسب إليه، يسري ذلك على مؤسسات السلطة المسؤولة عن حماية اللاعبين والمدنيين، ووسائل الإعلام التي روّجت للأكاذيب وأشعلت الحريق، واتحادات كرة القدم التي عمّقت في الخصومة وشحنت اللاعبين وجمهورها بمشاعر البغض والمرارة. (ذكرت الأنباء أن رئيس اتحاد الكرة الجزائري رفض مصافحة نظيره المصري، الذي كان قد توجه إليه لأجل ذلك، أثناء اجتماع دعا إليه الرئيس عمر البشير لتهدئة النفوس وترطيب الأجواء، حضره الإداريون من الجانبين).
وحده ذلك التحقيق الذي يفضي إلى الاعتذار عن أي خطأ وقع أو التعويض عن كل جرم ارتكب، يمكن أن ينقذ العلاقات المصرية ـ الجزائرية، فيداوي ما انجرح ويصل ما انقطع، وبغير ذلك ستظل المرارة في الحلوق وسيتحول الشرخ الذي أحدثه ما جرى إلى عقبة تضيف تصدعا جديدا إلى العلاقات العربية ـ العربية، وستكون تلك شهادة نجاح وتفوق لدعاة التسميم ومثيري الفتنة.
إن علاقات الشعبين المصري والجزائري أغلى من أن تترك للغوغاء ودعاة الإثارة والتحريض، الأمر الذي يتطلب ـ إلى جانب التحقيق ـ تدخلا من مستوى رفيع في البلدين يوقف التدهور الحاصل قبل فوات الأوان. وهذا التدخل مطلوب حتى لا نقدم هدية أخرى للذين يدعون إلى تسميم العلاقات المصرية ـ العربية، الذين لم يتمنوا الخير يوما ما لمصر ولا للعرب.
19 نوفمبر، 2009
مبدعون ممنوعون من الصرف
المُكرّم الآخر، الجزار ويليام لويد ويليامز، رجل مغمور لا يعرفه إلا أهل بلدته «ماكنيليث»، الذين أحبوه وأقبلوا على محل الجزارة الذي يملكه، وطوال عشرين سنة لم يغادر مكانه في متجره، وإنما كان الناس يرونه كل صباح منهمكا في عمله أو باشا في وجوه زبائنه، وقد ارتدى طاقية يدفئ بها رأسه، ووضع خلف أذنه قلما جاهزا لتدوين طلبات الزبائن، وقد اعتز به لدرجة أنه ذهب لحضور حفل التكريم الذي أقيم له في قصر باكنجهام والقلم في مكانه. وكان قد أرسل خطابا للقصر استأذن فيه أن يحضر بقلمه خلف أذنه، ولم يرفعه إلا لحظة عبوره بوابة القصر الملكي حسب طلبات زوجته.
حين وقعت على الخبر قلت: لماذا لم تكرّم الدولة أحمد بهجت رغم رقي إبداعه وعلو مكانته وذيوع صيته، ولماذا كرّمت ملكة إنجلترا جزارا مغمورا في مقاطعة ويلز؟ الفرق بين الحالتين هو ذاته الفرق بين النظامين. في إنجلترا الأصل أن تُحترَم لأنك مواطن. وعندنا الأصل أن يُستخَف بك لأنك مواطن، ولا يحتاج المواطن في إنجلترا لأكثر من التفاني في أداء واجبه حتى يكافأ، وعندنا يكافأ المواطن لأحد سببين: إما التفاني في خدمة السلطان، أو شموله برضائه، وعلى سبيل الاستثناء يجوز أن يُعطى المواطن المتميز بعض حقه في الثناء والمديح في حالة واحدة، هي أن يتوفاه الله وتصعد روحه إلى السماء.
في عام سابق اختارت إنجلترا ناظر مدرسة بسيطا واعتبرته رجل العام، لأنه كان مثلا أعلى لتلاميذه، وحين وقعت مشاجرة بين نفر من أولئك التلاميذ، فإنه تدخل ليحمي المُعتدى عليهم فتلقى طعنة أردته قتيلا، فاستحق التكريم لشهامته ومروءته.
في كل عام في بلادنا لابد أن يكون رجل العام إما السلطان نفسه أو أحد رجاله، ولا تمنح جوائز الدولة ـ كقاعدة دعك من الاستثناء ـ إلا لحواريي السلطان والمرضيّ عنهم الذين تجيزهم أجهزته الأمنية. هناك عملك سندك، وهنا قد يشفع لك عملك في الآخرة، لكنك بحاجة إلى سند فوقه لكي تكافأ في الدنيا، الجوائز في مصر ليست محايدة، فهي لا تمنح تقديراً لقيمة الخبير أو المبدع فقط، لأن هذه القيمة تأتي في مرحلة تالية، وأحيانا لا تكون شرطا أساسيا، فهي نادرا ما تمنح لشخصية مستقلة سياسيا، ولا يمكن أن يفوز بها ناقد أو معارض مهما كان إنجازه، أما إذا كانت له علاقة بالاتجاه الإسلامي ـ حتى ولو كان ملتحيا فقط ـ ففرصته ليست واردة أصلا، ولأن الأمر كذلك، فقد حذفت من أجندة جوائز الدولة أسماء كبيرة من الرموز الوطنية والثقافية مثل د.عبدالعظيم أنيس والدكتور جلال أمين والمستشار طارق البشري والدكتور محمد سليم العوا والدكتور سيد دسوقي والدكتور حامد الموصلي والدكتور محمد كمال إمام وأمثالهم كثيرون.
وفي حدود علمي، فإن هيئة بقامة مجمع اللغة العربية رشحت الدكتور حسن الشافعي 15 مرة، وأخرى بوزن مجمع البحوث الإسلامية رشحت د.محمد عمارة 14 مرة، وتم تجاهلهما، وحين رشح أتيليه القاهرة ذات مرة من أهان الجائزة، أخذ بترشيحه، لأنه يوافق الهوى ويخدم أغراض السياسة وألاعيبها.
لقد حجبت أجهزة الدولة جوائزها عن أحمد بهجت وعن هؤلاء جميعا وأمثالهم، لكن تلك الأجهزة ظلت عاجزة عن أن تحجب عنهم احترام المواطن العادي ولا مكانتهم في التاريخ.
18 نوفمبر، 2009
العناوين الغلط فى مصر
وقبل أن أعرض لمضمون تلك الرسائل ألفت الأنظار إلى أن ما أكتبه أنا وغيري بحذر يراعي السقوف والمقامات، يوصل المراد إلى القراء الذين يتمتعون بدرجة عالية من الذكاء والفطنة، لكن بعضهم يتشجع فيفتح قلبه ويأخذ راحته في التعبير عن مكنون نفسه، متخليا عن الحذر الذي يتوخاه المشتغلون بمهنة الكتابة، الأمر الذي يوقع المرسل في الغلط ويوقع الكاتب المتلقي في الحرج.
الذين علقوا على زيارة الرئيس لمتجر «كارفور» ركزوا على فكرة واحدة، هي أنه إذا أراد أن يرى الشعب المصري على حقيقته، فإن ذهابه إلى «كارفور» كان اختيارا للعنوان الغلط، منهم من شكك في أن الأجهزة الأمنية تعمّدت أن تبعده عن رؤية الحقيقة. ومنهم من قال إن الرئيس لو كان يقرأ عناوين الصحف اليومية لأدرك أن العنوان الذي كان ينبغي أن يقصده هو إما قرية البرادعة التي اختلطت فيها مياه الشرب بمياه المجاري، الأمر الذي أدى إلى إصابة أهلها بالتيفود، أو محافظة الجيزة التي تحوّلت شوارعها وميادينها إلى مقالب للقمامة.
قارئ آخر خفيف الظل قال إن تزوير الانتخابات أدى إلى تزوير صوت الشعب المصري، وزيارة «كارفور» أدت إلى تزوير صورة الشعب المصري، وكانت النتيجة أن الرئيس أصبح يسمع صوتا آخر غير صوتنا، ويرى صورة أخرى غير صورتنا الحقيقية، حتى أصبحنا مجتمعا افتراضيا بلا صوت أو صورة.
تلقيت ثلاث رسائل أخرى تحدثت عن الخطأ في العنوان من زاوية مغايرة. وكانت الرسائل صدى لما نشرته «الأهرام» (عدد 16 نوفمبر الجاري) في قلب صفحته الأولى وبعرض ثمانية أعمدة عن أن الرئيس أمر بتوفير كل الدعم للمنتخب، وأنه تقرر إقامة جسر جوي لنقل المشجعين إلى السودان.
أصحاب الرسائل أعربوا عن تقديرهم لتلك المساندة بدرجات متفاوتة، رغم أن أحدهم غمز في الحزب الوطني بعدما أعلن أمينه العام أن أمانة التنظيم سترتب نقل 2000 مشجع إلى الخرطوم قائلا إن الحزب لو تفرغ لرعاية الرياضة لقدّم خدمة جليلة للبلد بدلا من بقائه بلا عمل طوال الوقت، بعد ذلك قالوا إن أنباء المجاعة الخفية التي تضرب قطاع غزة على نحو دمر الحياة الإنسانية فيها لابد أنها قد وصلت إلى مسامع الرئيس مبارك أثناء مشاركته في مؤتمر الأمن الغذائي في روما، بعدما وجّه وزير الزراعة في غزة رسالة إلى المؤتمر عرض فيها معالم تلك الكارثة. والسؤال الذي طرحوه كالتالي: أليس حريا بالرئيس مبارك أن يأمر بإقامة جسر جوي لإغاثة المحاصرين في غزة، أسوة بما فعله لمساندة المنتخب القومي لكرة القدم؟ أضاف أحدهم قائلا إنه حين رفع البعض قبل سنوات قليلة شعار «مصر أولا» فإن الذين يحسنون الظن بالشقيقة الكبرى توقعوا أن تكون تلك بداية دعوة لتحسين أوضاعها واستعادة حيويتها، لكي تصبح في وضع أفضل يمكّنها من أن تنهض بمسؤولياتها، ولكن بعد مرور عدة سنوات على ترديد الشعار، فوجئنا بأن أكوام الزبالة أصبحت من معالم القاهرة، والمياه الملوثة تصيب سكان الدلتا بمختلف الأراضي، والخدمات تنهار كما رأينا في حوادث القطارات المفجعة، وهو ما أعطانا انطباعا بأن الذين استقالوا من مسؤوليات مصر العربية انتقلوا إلى طور آخر تبين لنا أنهم استقالوا فيه من إدارة مصر الوطن، وحين انكشفت هذه العورة، فإنهم حاولوا تغطيتها بمهرجان مساندة فريق كرة القدم.
في الرسائل كلام آخر تنطبق عليه الملاحظة التي ذكرتها قبل قليل، من حيث إنه بوح تخلى عن الحذر المفترض، لكنه دال على شيء لا ينتبه إليه المسؤولون أو لا يريدون سماعه، أقصد أنها مشحونة بقدر من الغضب والنقد القاسي، الذي يعلم الله وحده عواقبه.
المدهش والمقلق أيضا أن ثمة حالة من اللامبالاة الشديدة من جانب السلطة بمثل تلك التفاعلات الحاصلة في الشارع المصري، المسكونة بالغضب، والمقترنة باليأس من الأوضاع القائمة، وأخشى ما أخشاه ألا يتحرك المسؤولون في البلد وألا يفيقوا إلا عندما يتحقق الانفجار أو تعم الفوضى، وهي نبوءة أرجو أن تكذبها الأيام.
17 نوفمبر، 2009
ابتذال الشرعية – المقال الأسبوعي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_17.html
وللتذكرة فإن بعض الذى صدر عن فريق «الموالاة» أثناء الجدل حول خيارات المستقبل كان هزلا مستغربا يتعذر أخذه على محمل الجد. والبعض الآخر كان ادعاءات تستحق التفنيد والرد.
الأمر الذى بدا شاهدا على أن الالتحاق بمركبة السلطة لا يحدث فقط انقلابا فى أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وتطلعاتهم الطبقية، ولكن ذلك الانقلاب يشمل أيضا طرائق تفكيرهم وحالتهم العقلية والفكرية. كأن وهج السلطة لا يخطف الأبصار فحسب، ولكنه يبهر العقول أيضا ويفقدها توازنها.
من قبيل الآراء المتهافتة التى رددتها أصوات فريق الموالاة أن اقتراح البدائل للمستقبل هو من قبيل فرض الوصاية على المجتمع، وأن القائلين بتلك البدائل لهم أجندات ومآرب أخرى تستهدف ضرب الاستقرار. وهو كلام مضحك ليس فقط لأنه يطالب أصحاب الرأى الآخر بألا يقدموا أية تصورات أو بدائل للمستقبل.
ولكن أيضا لأن الذين يرفضون الوصاية يدافعون عن وضع سياسى أحكم قبضته، على المجتمع المصرى طوال العقود الثلاثة الأخيرة، حتى وصفه المستشار طارق البشرى بأنه «مجتمع مخنوق»، وهو من فصَّل فى مطلب الجماعة الوطنية الداعى إلى رفع تلك الوصاية الكئيبة، فى كتابه الذى سبقت الإشارة إليه «مصر بين العصيان والتفكك».
واعتبر ذلك إحدى ركائز الإصلاح السياسى المنشود، إذ قال صراحة إن المطلوب تنحية السلطة الوصائية المفروضة من وزارة العدل بشأن القضاء، ووزارة التعليم العالى بشأن الجامعات، ووزارة الأوقاف بشأن الأوقاف، ووزارة العمل بشأن النقابات العمالية، ووزارة الشئون الاجتماعية بشأن الجمعيات، ووزارة الزراعة بشأن التعاونيات الزراعية، ووزارة الصناعة بشأن التعاونيات الإنتاجية، ووزارة الإسكان بشأن التعاونيات الإسكانية، ووزارة التموين والتجارة الداخلية بشأن التعاونيات الاستهلاكية. ومن عندى أضيف ووزارة الداخلية بشأن كل الأنشطة السابقة.
15 نوفمبر، 2009
الفكرة بعد السكرة
الفكرة بعد السكرة – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_15.html
أما وقد مرت مباراة مصر والجزائر على خير، ولم يحدث الأسوأ الذي خشينا منه. فأحسب أن الأعصاب الآن أهدأ قليلا مما كانت عليه قبل 48 ساعة، على الأقل حتى يحسم الأمر في مباراة الأربعاء بين الفريقين. وهذه «الهدنة» بين المباراتين تسمح لي بإبداء بعض الملاحظات على المشهد، ألخصها فيما يلي:
* إن احترام مشاعر الجزائريين وكسب ودهم أهم بكثير من كسب المباراة، ولا ينبغي بأي حال أن نحرز أهدافا ونخسر شعبا شقيقا، ولئن قيل إن بعض الممارسات الصادرة هنا ردود أفعال لتحرشات وتراشقات هناك، فينبغي ألا ننسى أن الرعاع والحمقى موجودون على الجانبين، ثم إن الذين يتحرشون هناك ليسوا الشعب الجزائري الذي لا تحصى فضائله، فضلا عن سجله النضالي المشرّف، وفي كل الأحوال فإن التصرفات المصرية ينبغي ألا ننسى للحظة أنها تصدر عن مصر الكبيرة الأوسع صدرا والأكثر وُدَّا وبرا.
* إن مفهوم الرياضة بات يحتاج إلى إعادة نظر، بعدما أصبحت الروح الرياضية بمنزلة مزحة غير قابلة للتصديق، ولا أعرف كيف يمكن إعادة الوصل بين الرياضة والأخلاق، لكني أحسب أن تلك مسؤولية القائمين عن الشأن الرياضي من ناحية، وأجهزة الإعلام الرسمية من ناحية ثانية، وأضع خطا تحت كلمة «الرسمية» بمعنى المعبرة عن سياسة الدولة، لأن بعض الأبواق الإعلامية الخاصة لم تكترث بمسألة الأخلاق هذه، وكان همّها هو إثارة الجماهير وتأجيج مشاعرها، ولم تتورع في ذلك عن استخدام أساليب اتسمت بالهبوط والسوقية.
* إننا في مصر أسرفنا على أنفسنا كثيرا في التعامل مع المباراة، وأعطيناها حجما أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، رغم أنها لم تكن مباراة للفوز بكأس العالم في كرة القدم (وهو مقام رفيع لا أعرف قيمته بالضبط)، بقدر ما أنها مباراة لتحديد الطرف الذي سيهزم في النهاية أمام فريق البرازيل في نهاية المطاف. لقد قرأت يوم 13 نوفمبر لأحد الزملاء في جريدة محترمة هي «الأهرام» رسالة موجّهة إلى منتخب مصر القومي قال فيها أحد الزملاء ما نصه: يا فرسان النيل يا أحفاد بناة الأهرام.. فقراء الوطن ينادونكم لتحققوا حلمهم الوحيد.. لا يبغون إلا شيئا واحدا: رؤية علم مصر يوم افتتاح المونديال ـ لو فعلتموها ستحلون كل مشكلاتنا وتداوون كل أوجاعنا وتقتلون كلاب بطوننا التي تعوي ـ هل هذا معقول؟!
* سمعت من كثيرين أن الناس تريد أن تفرح، وهذا حق مشروع أتفهمه، ولكن ذلك يثير السؤال التالي: ألم تعد في بلادنا وسيلة لإدخال الفرح والسرور إلى قلوب الناس سوى مباريات كرة القدم؟ ولأن ذلك الفرح يستمر لأكثر من ليلة أو اثنتين، يعود بعدهما الناس إلى الاستغراق في همومهم اليومية، فهل نكون في هذه الحالة بصدد فرح يعمر القلوب ويسكنها، أم بإزاء مخدر يتعاطاه الناس لبعض الوقت، ثم يزول أثره بعد ذلك ليفيقوا على واقعهم الذي لم يتغير فيه شيء؟ وإلا يعني ذلك أننا حين فشلنا في إسعاد الناس، فإننا لجأنا إلى تخديرهم!
* إنني أتفهم حقا رغبة الناس في الفرح، لكنني لاحظت أن اللوثة التي أصابت الناس وصلت عدواها إلى قنوات التلفزيون الرسمي، بل أزعم أن تلك القنوات هي التي قادت اللوثة وأشاعتها، الأمر الذي يدعوني إلى التساؤل: هل الحكومة أيضا تريد أن تفرح؟ وإذا صح أن الحكومة مكتئبة وأن الشعب مكتئب بدوره، ألا يدعونا ذلك إلى النظر في تشخيص المشكلة بصورة أعمق، لا بالاختباء وراء التهليل لمباريات كرة القدم؟
* خروج الملايين لمناصرة المنتخب القومي له دلالات عدة، إحداها أن مشاعر الجماهير الجياشة انطلقت حينما وجدت قضية تعبر عن اعتزازهم بوطنهم أجمعوا عليها، وهو ما ينبهنا إلى غياب الأهداف المشتركة، التي تستقطب الجماهير وتستنفر همتها، الأمر الذي يشكل تحديا فشلت فيه السلطة. إذ بدلا من أن تستدعي الإجماع الوطني وتعمل على تفجير طاقات المجتمع واستثمارها فيما ينهض بالبلد ويدفع عجلة تقدمه، فإنها اكتفت بدغدغة مشاعر الناس وقيادة حملة تخديرهم بفرح عابر لا يقدم شيئا في حياتهم أو يؤخر.
إن سكرة الفوز المؤقت حين تذهب، فثمة أكثر من فكرة ينبغي أن نعيد النظر فيها قبل فوات الأوان.
14 نوفمبر، 2009
عن زيارة الرئيس للمنتخب
صحيفة الرؤية الكويتيه الأحد 27 ذوالقعدة 1430 – 15 نوفمبر 2009
عن زيارة الرئيس للمنتخب – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_2993.html
الحدثان وقعا في أسبوع واحد،
يوم الخميس 12 نوفمبر الجاري زار الرئيس مبارك منتخب مصر الوطني إسهاما منه في مساندته وتشجيعه.
ويوم الثلاثاء الذي سبقه (10 نوفمبر) زار الرئيس أوباما قاعدة «فورت هود» العسكرية في ولاية تكساس، للاشتراك في تكريم ضحايا المذبحة التي قتل فيها 13 عسكريا.
هذا التزامن الذي صنعته المصادفة أغراني بالمقارنة، وأثار لدي السؤال التالي:
لماذا قطع الرئيس مبارك شواغله لكي يزور فريق كرة القدم ويحضر تدريباته، في حين لم نجده حاضرا في مناسبات أخرى مهمة هزت مصر وصدمت الرأي العام فيها، وكلها تتجاوز بكثير فاجعة القاعدة العسكرية التي استدعت حضور الرئيس الأميركي وتأجيل بدء رحلته الآسيوية؟
لست أشك في أن زيارة الرئيس لمنتخب مصر لفتة طيبة رفعت معنويات الفريق، لكنني لا أستطيع أن أنسى أن الشعب المصري كان يستحق لفتة مماثلة تعبّر عن المواساة وتطييب الخاطر عندما حلت به كوارث عدة مازالت محفورة في الذاكرة، ومبللة صفحاتها بدماء مئات الضحايا المصريين الذين سقطوا جراء الإهمال والفساد الذي تتحمل السلطات المصرية جنبا من المسؤولية عنهما.
أذكر من تلك الأحزان على سبيل المثال
حادث احتراق قطار الصعيد عام 2002، الذي قتل فيه 373 مصريا،
وحريق قصر ثقافة بني سويف عام 2005 الذي قُتل فيه 50 شخصا
وجريمة العبّارة المشؤومة التي وقعت في عام 2006 وغرق فيها 1300 شخص،
وحادث اصطدام قطار الصعيد هذا العام الذي قُتل فيه 18 مواطنا.
وهي الحوادث التي قرأنا في الصحف أن الرئيس تابعها «هاتفيا»، وأصدر تعليماته باتخاذ اللازم إزاءها.
صحيح أن الرئيس ذهب بنفسه لمعاينة الحريق الكبير الذي أتى على مبنى مجلس الشورى قبل 15 شهرا، لكن ذلك لا يغير شيئا من الانطباع الذي ذكرته، لأن المبنى منسوب إلى السلطة بأكثر من نسبته إلى المجتمع.
لا تفوتني أيضا ملاحظة أن الرئيس لا يكف عن تفقد المشروعات الكبيرة بين الحين والآخر، في جولات تتعدد اجتهادات المحللين في قراءتها وتفسيرها، وبعضهم يعتبر ذلك الحضور تكذيبا عمليا للشائعات التي تتردد على ألسنة الناس بخصوص حالته الصحية وقدرته على القيام بمهامه.
لكن ذلك الحضور يتحقق في محيط غير الذي أتحدث عنه، إذ يدور في فلك مسؤوليات الحكم وحساباته، في حين أن الذي يعنيني في المقارنة التي نحن بصددها هو مؤشرات التواصل الإنساني والتعاطف المباشر مع مشاعر الجماهير، احتراما للرأي العام الذي كان تصرف الرئيس أوباما واعيا بأهميته.
لا أجادل في أن زيارة الرئيس للمنتخب القومي جاءت انعكاسا لحماس الشارع المصري الذي تمت تعبئته بصورة مبالغ فيها، حتى تصور البعض أن مكانة مصر ومستقبلها ومصيرها، ذلك كله بات معلقا في رقاب لاعبي المنتخب (أقدامهم إن شئت الدقة!).
وإذ أكتب هذا الكلام قبل موعد المباراة لأسباب تتعلق بمواعيد الطبع، فإنني لا أخفي حماسا لفوز الفريق المصري، لكني أزعم أن ذلك الفوز إن تحقق، فإن أثره لن يتجاوز الفرحة العابرة، لأنه يعطي شعورا زائفا بالنصر، وإذا لم يتحقق، فإن ذلك لن يكون صدمة، وسيظل أثره في حدود الأسف العابر، الذي يسقط من الذاكرة في اليوم التالي.
في تفسير زيارة المنتخب واللوثة التي أصابت مختلف شرائح المجتمع في مصر، قلت إن تلك «الصرعة» تعبر عن الشوق لتحقيق أي إنجاز، حتى وإن كان وهميا. وهذا سلوك مفهوم لدى اليائسين والمحبَطين، وفي زمن عمت فيه الانتكاسات وعزت الانتصارات، لم يبق أمام هؤلاء إلا أن يراهنوا على الانتصار في مباراة لكرة القدم وأن يزايدوا على بعضهم البعض في التعلق بذلك الأمل.
أحد الأصدقاء عرض تفسيرا آخر، ذكَّرني فيه بما حدث في عهد الملك فاروق، حين أدرك أنه أصبح محلا للسخط والرفض من جانب المصريين، فاقترح عليه بعض الناصحين أن يتودد إلى الناس من خلال حضور الحفل الشهري للسيدة أم كلثوم، التي كانت في أوج مجدها، ويهديها وسام «الكمال» في الحفل، إذ ارتأوا أن ذلك سيؤدي إلى تحسين صورته وإكسابه نصيبا من الحفاوة والمشاعر الدافئة التي تحيط بأم كلثوم في حفلات ذلك الزمان.
وبعد أن روى القصة سألني صاحبي عما إذا كانت زيارة الرئيس للمنتخب القومي تحمل نفس الدلالة أم لا، فلم أستطع الإجابة، وفضلت أن أسجل القصة لكي يستخرج منها القارئ الخلاصة المناسبة.
...................
هُزمنا جميعاً قبل المباراة
صحيفة الرؤية الكويتيه السبت 26 ذو القعدة 1430 – 14 نوفمبر 2009
هُزمنا جميعاً قبل المباراة – فهمي هويدي
http://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/11/blog-post_14.html
هُزمنا جميعا قبل أن تبدأ المباراة بين مصر والجزائر،
هزمَنا المتعصبون والجهلاء والحمقى، الذين أثاروا الفتنة وزرعوا بذور البغض والمرارة بين الشعبين بسبب المنافسة الكروية،
وهزمَنا إعلام الإثارة الذي ظل همه الأول في الأسابيع الماضية هو تأجيج الفتنة، في غيبة الحد الأدنى من الشعور بالمسؤولية الأخلاقية أو حتى المهنية، وأمام ضجيج الغوغاء ومزايداتهم وإزاء عمليات الشحن المريض التي مارستها الأبواق الإعلامية،
فقد تحولت مباراة رياضية إلى معركة عبثية بين الشعبين الشقيقين، قطعت فيها الوشائج الحميمة التي تربط بينهما، وداست الأقدام على القيم النبيلة التي تتخلل نسيج العلاقات التاريخية والنضالية التي جمعتها، وأهدرت الأولويات التي ينبغي أن تحتل مكانها لدى الرأي العام في البلدين.
انتصرت ثقافة المتعصبين والجهلاء والغوغاء، وضاع صوت العقلاء الواعين، ليس فقط برسالة الرياضة وقيمها الأخلاقية والتربوية، ولكن أيضا بحقيقة ما بين الشعبين المصري والجزائري، وحقيقة الأمة التي ينتمي إليها هؤلاء وهؤلاء، الأمر الذي حوّل حدث المباراة إلى فضيحة مجلجلة، أشعرتني بالاشمئزاز والقرف، حتى تمنيت أن تُلغى المباراة وأن تُشطب كرة القدم على الأقل من المنافسات الرياضية في العالم العربي، طالما أنها صارت سبيلا إلى إشاعة الخصام والكراهية والنقمة بين الشعوب.
لقد استنفر الإعلام الجماهير في البلدين، حتى أصيبت القاهرة ـ على الأقل ـ بما يشبه الشلل يوم فتح الباب لبيع تذاكر المباراة من خلال بعض الأندية والمنافذ، فتجمّعت الحشود في الصباح الباكر في طوابير طويلة لم تعرفها المدينة في أي مناسبة أخرى، وتعطل المرور، وتجمّعت أرتال سيارات الأمن المركزي التي اصطفت على جوانب الطرق تحسبا لأي طارئ، وكانت كل الدلائل مشيرة إلى أن عاصمة «أم الدنيا» مقبلة على حدث جلل، لا يخطر على بال أي عاقل أنه مباراة في كرة القدم بين بلدين شقيقين، حتى وضعت يدي على قلبي تحسبا لما يمكن أن يحدث أثناء المباراة وبعدها.
صحيح أن الإعلام المريض لعب دورا أساسيا في تأجيج المشاعر وتعبئة الناس وتحريضهم ضد بعضهم البعض، وأنه نجح في أن يحول الإخوة الأشقاء إلى إخوة أعداء، ولكننا ينبغي أن نفكر مليا في أسباب ذلك النجاح، والظروف التي دعت الجماهير العريضة إلى الاندفاع في الاستجابة للتحريض والإثارة.
بكلام آخر، فإن أسباب التحريض التي تراوحت بين الإثارة والوقيعة مفهومة، لكن حالة القابلية للتحريض، والاستجابة السريعة له بحاجة إلى تفسير يتجاوز مجرد عشق الناس لكرة القدم.
في هذا الصدد أزعم أن الفراغ الهائل المخيم على العالم العربي المقترن بالانكفاء الشديد على الذات يشكل عنصرا مهمّا في تفسير تلك الاستجابة، إذ قد يعن للباحث أن يسأل: إذا لم ينشغل الناس بكرة القدم وينتصروا أو يتعصبوا لفرقها ونواديها المختلفة، فبأي شيء ينشغلون إذن؟!
إن في مصر 24 حزبا سياسيا مصابة بالشلل الرباعي، لكن أكبر حزبين في الشارع المصري هما حزبا الأهلي والزمالك،
وإذا صح هذا التحليل، فإنه قد يزود أنصار فكرة المؤامرة بحجة قوية تؤيد موقفهم، الأمر الذي يستدعي السؤال التالي:
هل يُستبعد أن يكون من بين أهداف ذلك الشحن والتحريض إشغال الجماهير بمباراة المنتخب المصري ضد نظيره الجزائري،
أليس من شأن ذلك أن يصرف الناس عن قائمة الهموم الطويلة، من الزبالة والسحابة السوداء، مرورا بالغلاء والفساد والبطالة وانتهاء بحكاية توريث الحكم وتهويد القدس والتواطؤ الأميركي ـ الإسرائيلي والتهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي المصري والعربي؟
سواء كان الفراغ هو السبب في اللوثة الفاضحة التي حلّت بنا، أو كان للسلطة يد في محاولة إلهاء الناس وتخديرهم، فالنتيجة واحدة، وهي أن تلك المباراة البائسة كانت سببا في تسميم العلاقات بين الشعبين المصري والجزائري،
لا يغير من هذه الحقيقة أن يفوز هذا الفريق أو ذاك، حيث لا قيمة ولا طعم لفوز أي فريق في المباراة إذا ما كان الشعبان قد خسر بعضهم البعض، وخرجا بعد المباراة وقد تمكنت المرارة من كل الحلوق.
إن الأمة التي تنساق وراء متعصبيها وجهلائها تتقدم حثيثا على طريق الخزي والندامة.
...............